في يوم الباكلوريا الكاتب الصحفي محمد المنى

اثنين, 06/13/2022 - 12:54

في يوم الباكالوريا

------------------------

اليوم يذهب أبناؤنا وبناتنا، ومعهم دعواتنا، إلى قاعات امتحان شهادة الباكلوريا، الشهادةُ التي طالما بددت أحلامَ آلاف الشباب الموريتانيين، إن بسبب نجاحهم في نيلها أو نتيجةً لإخفاقهم في الحصول عليها. في هذا اليوم أتذكر تجربتي في الأشراف على أحد الأطفال كان يحضِّر للباكلوريا قبل عامين من الآن، وفجأةً ضربت جائحةُ كورونا العالَم بإسره فشلّت التعليمَ كلياً في كثير من الدول بينما حوّلته إلى «تعليم عن بعد» في الدول التي تملك بنية تحتية إلكترونية قوية. ويومها ذكرتني تلك التجربة بقصتي مع الباكالوريا ومع أستاذ كان له الفضل الأكبر في حصولي عليها، فكتبت المنشور التالي:

«أحمدو ولد حبيب الله زين».. أستاذ «التعليم عن بعد»!

-----------------------------------

فرض وباء كورونا تغييرات كبيرة في مناحي حياة الناس جميعاً، بما فيها العمل والدراسة. وبالنسبة لي شخصياً فقد بدأتُ مزاولةَ العمل من البيت منذ منتصف مارس الماضي، وفي الوقت نفسه بدأت متابعة ثلاثة أطفال أخذوا يتلقون دروسَهم اليومية من خلال نظام «التعليم عن بعد». لكن أكبرهم الذي يحضّر شهادة الباكلوريا أخذ كل اهتمامي تقريباً، وقد أخذت أتابع معه معظم دروسه المباشرة بالصوت والصورة (مع تجنب الكاميرا)، لاسيما درسَيْ الفلسفة واللغة العربية. إلا أن درس أستاذة الفلسفة (وهي سيدة فرنسية شديدة الولع بمادتها وبإفهام تلامذتها) يذكّرني في كل مرة بدروسي في الفلسفة حين كنت أحضّر للباكالوريا قبل ثلاثين عاماً من الآن.

مرحلة الباكلوريا من المراحل الدراسية والحياتية التي يصعب شطبها من الذاكرة. وبالنسبة لي شخصياً فقد ارتبطت بأستاذ الفلسفة أحمدو ولد حبيب الله زين الذي سعِدتُ البارحةَ برؤية صورته المنشورة على حساب نجله الأستاذ يحي أحمدو هنا في الفيسبوك.

في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات كان أحمدو يدرّس الأقسام النهائية الأدبية في الثانوية العربية، المؤسسة التعليمية العتيدة في العاصمة ودرة تاجها المعرفي والثقافي حتى ذلك الوقت (وكانت واحدةً من ثمار التعاون الليبي الموريتاني في السبعينيات). كنا «طلاباً أحراراً» نتسكع ونتسول المعرفة على هذه المؤسسة. بعضنا تسرّب من التعليم في مرحلة ما من حياته ويحاول العودة إليه مجدداً، وبعضنا الآخر يسعى للالتحاق به لأول مرة في حياته. وكان مدير الثانوية العربية وطاقمه الإداري يخوضون حرباً شعواء ضد هؤلاء المتسكعين الذين يُدعى الواحد منهم «مستمعاً حراً»، وهي تسمية تكفي وحدها لإجفال مَن يوصف بها وفراره من المكان خجلا وشعوراً بالدونية والعار! وكانت الدولة الموريتانية في بداية السبعينيات قد قررت السماح بنظام الاستماع الحر في المرحلتين الإعدادية والثانوية، تشجيعاً لطلبة المحاظر على الالتحاق بالتعليم النظامي بغية دمجهم في الحياة العصرية الجديدة وبهدف تأمين ما يكفي من الكوادر وحملة الشهادات، حيث كانت البلاد تعاني من نقص حاد في هذا المجال. وفي الوقت ذاتها كانت السلطة القائمة تنتهج سياسة تعريب تدريجي هادئ ومنتظم، مثّل «الاستماع الحر» أحد روافده المهمة. لكن ما أن جاءت اللجنة العسكرية حتى منعت «الاستماع الحر» منعاً باتاً وصار المستمعون الأحرار موضع مطاردة وشيطنة في جميع المدارس الثانوية. وقد تزامن ذلك مع بداية قيام المدارس الخاصة في نواكشوط، لكن الأرجح أن سبب الحملة يعود إلى الرغبة في التضييق على التيارات القومية التي كانت تستقطب معظم «المستمعين الأحرار».

وعودةً إلى الثانوية العربية فقد كانت الرقابة مشددةً عند بوابتها الرئيسية، من خلال التعرف على التلاميذ لدى دخولهم، وكثيراً ما كان المدير بنفسه، ومعه مساعدوه، يدخلون الصفوف لدى بداية كل درس (لاسيما دروس الأساتذة ذوي السمعة الجيدة بين الطلاب) للتأكد من هويات الحاضرين، وكان يُطلب من جميع الأساتذة فعل ذلك قبل البدء بتقديم الدرس. وفي لحظات تدقيق من ذلك النوع، كانت ترتجف قلوب المستمعين الأحرار وتتلاحق أنفاسهم. والواقع أنهم في ذلك الصف ( Terminal/6/A على ما أتذكر) كانوا اثنان فقط، المرحوم محمدو ولد عبدالحي (الأستاذ والشاعر والصحفي) الذي كان يجلس في المقاعد الأمامية، متفاعلا مع الأساتذة كما لو أنه التلميذ النظامي الأول (سأتعرف عليه بعد ذلك في الجامعة ليخبرني أنه كان مستمعاً حراً هو الآخر)، وأنا الذي كنت آتي مقنّعاً، وأجلس على آخر معقد في الخلف، حتى لا أثير انتباه أحد فيشي بي إلى مدير الثانوية أو أحد مراقبيها. بيد أن الأستاذ أحمدو كان الأستاذ الوحيد الذي يرفض الالتزام بمناداة الحاضرين والتدقيق في هوياتهم، وكان يتحدث عن التعليم بوصفه حقاً للجميع وعن ضرورة إشاعته ومنع احتكاره أو الحيلولة دون الوصول إليه. حضرتُ دروسَه خلال فترة الشهر ونصف الشهر الأخيرة من السنة الدراسية. وبعد عدة حصص بدأت أشارك وأتفاعل مع درسه، لكنه ما أن يضع الطبشور مؤذناً بانتهاء الدرس، حتى أنسل مسرعاً إلى الخارج، فأي أستاذ آخر لا يمكن الطمع بحضور حصته أو الاستفادة منها. وذات مرة طلب منا الأستاذ أحمدو كتابة مقالة حول نظرية المعرفة، فكتبت خمس صفحات سلّمتها له في الحصة التالية، وفي الحصة التي تلتها أعاد جميع الأوراق لأصحابها إلا ورقتي، فقلت في نفسي: لعل لم يجد اسمي ضمن قائمة طلاب الفصل.. لكنه سرعان ما نادى باسمي وهو ينظر في ورقة بين يديه ويقول: هذه ورقة جيدة جداً وما أحسب إلا أن صاحبها سيتجه في مرحلته الجامعية إلى دراسة الفلسفة.

بعد ذلك بأيام اكتشفت أن الأستاذ أحمدو جاري في مدينة «ر» قرب قيادة أركان الحرس الوطني، حيث كنتُ استأجر غرفةً هناك، فاستأذنته في القيام بزيارة له في سكنه، فقال لي: مرحباً بك في أي وقت تشاء. وقد زرته عدة مرات، في بعضها كنت أحمل معي محاولة حول موضوع من الموضوعات التي يعتقد الطلاب أن احتمالية ورودها في امتحان الباكالوريا احتمالية عالية، فكان يقرؤها بعناية وتمحيص فائقين، وكان في غاية الدقة واللطف والحرص في ما يقدمه من ملاحظات وانتقادات وتوجيهات. لذلك أعتقد الآن أن فترة الشهر ونصف الشهر من التتلمذ على «أحمدو ولد حبيب الله زين» لم تكن لتضاهيها سنوات من التتلمذ على أستاذ آخر غيره.

وقبل سنواته في الثانوية العربية، حيث طار صيته بين طلاب الباكالوريا في نواكشوط كله، كان خريجو ثانوية كيهدي يذكرونه بكثير من الحب والاحترام والإعجاب، وربما كانت بدايته في التدريس من هناك بعد عودته من ليبيا. وأعتقد أنه أول مَن غيّر النظرة النمطية السلبية إلى خريجي الجامعات الليبية داخل المؤسسات التعليمية الموريتانية، ليس فقط لما اتصف به من أخلاق وعلم وسمت تربوي قلّ نظيره، ولكن أيضاً لنزعته العقلانية الراسخة، ولنمط شخصيته المنفتحة البعيدة عن التحزب والتخندق الأيديولوجي. كان يقدّر بن رشد تقديراً لا حدود له، ويرى أن محنته الشخصية مثلت تجسيداً حياً لمحنة العقل في الثقافة العربية، وأنه يتحتم إحياء الرشدية لإعادة العقل إلى مكانه الصحيح وجعله حجر الزاوية في أي نهضة عربية حضارية مطلوبة وممكنة.

وبعد كل هذه السنوات يأتي الإغلاق الصحي جرّاء جائحة كورونا الحالية، ليذكرني بتشدد إدارة الثانوية العربية في منعها «الطلاب الأحرار» من الاستماع والاستفادة، والذي كان يضطرني لاستخدام اللثام مراوغةً ومناورةً لها. كما يذكرني سخاء شبكة الإنترنت ومحركات البحث ووسائل التواصل الاجتماعي ومنصات «التعليم عن بعد» المتاحة من خلالها في هذه الظروف، بـ«أحمدو البنباري» وبانفتاحه وأريحيته وعطفه.. أي بالنموذج الذي ما يزال تأثيره يمثل ضرباً آخر من ضروب «التعليم عن بعد». فله مني أصدق التقدير وأعظم التبجيل.