مع نهاية خمسينيات القرن العشرين عرف التعليم النظامي الناشئ بموريتانيا أول مفتش للتعليم العربي، وهو رجل من أصول أفغانية يدعى عكاري.
كان عكاري ذا ملامح مستغربة لم يعْتَدْهَا الموريتانيون وذا أطوار مزاجية غير مألوفة عندهم. كان له غليون كبير يعض عليه بنواجذه طول الوقت في نهم للتدخين لا يعرف الملل، فضلا عن صرامتِه العاتيةِ التي تصل حد الغلظة، وجِدِّه المفرطِ الذي يبلغ حدَّ الجفاء.
أسس عكاري مكتبة عربية حديثة فاتحا أبوابها أمام القراء من موريتانيين وغيرهم وذلك في حي سندونة باندر الأبيض بمدينة سيلنوي عاصمة موريتانيا يومئذ.
وعكاري هو الذي أنشأ كذلك شهادة الكفاءة في التعليم نهاية الخمسينات فسماها الموريتانيون العكارية نسبة إليه وسموها الكفاءة أيضا.
كما نظم عكاري الامتحانات الدورية لاكتتاب المعلمين، واختار موضوعاتها من الأدب الحديث وعلم النفس، وهي أمور جديدة على الوسط المحظري الأصيل الذي ألِفَ دراسة ديوان الشعراء الستة الجاهليين وأدب العصور الأموية والعباسية والأندلسية ولم يكن له اطلاع في ذلك الوقت على هذه المعارف المستحدثة.
الصفحة الأولى من المجلة التي كان يصدرها المفتش الأفغاني عكاري
أشرف عكاري على مسابقات لاكتتاب معلمي اللغة العربية لصالح المدارس الموريتانية فكانت لتلك الاكتتابات قصص تروى وأدب يحكى لكن اللافت للانتباه أن التمدرس في موريتانيا قديم، وأن احتكاك الموريتانيين بالتعليم النظامي الحديث يعود إلى عهد أقدم بكثير من اتصالهم بهذا المفتش الأفغاني.
مدرسة أبناء الشيوخ.. الرعيل الأول من الطلاب الموريتانيين
مبنى مدرسة أبناء الشيوخ بحي سور (سندونة) بجنوب سينلوي
استحدثت الإدارة الفرنسية بسينلوي مدرسة أبناء الشيوخ والمترجمين (Ecole des fils de chefs et d’interprètes) سنة 1892 وكان الهدف من هذه المؤسسة التربوية استكتابَ أبناء الأعيان في ضفة النهر وفي موريتانيا وأخذهم عنوة ومراقبتهم وتكوينهم ليصيروا وكلاء في الجهاز الإداري الفرنسي. لم تكن مدرسة أبناء الشيوخ سوى امتداد ومواصلة لمدرسة الرهائن (Ecole des Otages) التي أسسها الوالي الفرنسي بسينلوي الجنرال فيديرب أواسط القرن التاسع عشر بسينلوي.
مجموعة من طلاب مدرسة أبناء الشيوخ نهاية القرن التاسع عشر
أصحبت مدرسة أبناء الشيوخ تعرف بمدرسة سينلوي ثم بمدرسة بلانشو وصارت تعرف اليوم باسم ثانوية أحمد فال (Lycée Ameth FALL) وهو مواطن موريتاني من أشهر المترجمين الموريتانيين في القرن التاسع عشر.
كان أحمد ولد الكوري الشهير بـ"أحمد فال سيني"، والمولود سنة 1836 في بتلميت، من وائل طلاب مدرسة أبناء الشيوخ وبعد تحصيله الدراسي أصبح ترجمانا ماهرا ثم ترقى في سلم الترجمة في سينلوي من المستوى الرابع إلى الثالث فالثاني فالأول ليصبح سنة 1885 محررا باللغة العربية في إدارة الشؤون السياسية في سينلوي وهي رتبة قل أن يصل إليها موريتاني في ذلك الزمن. وقد كان أحمد ولد الكوري عنصرا موريتانيا بارزا في سينلوي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فكان مراقبا عاما في مدرسة أبناء الشيوخ سنة 1904 وقد حصل مرارا على ميداليات وأوسمة متعددة من الإدارة الفرنسية بسينلوي. لم تكن مدرسة أبناء الشيوخ حكرا على هذه الطبقة فقد دخلها أبناء الطبقات الأخرى وبرعوا فيها وأحمد ولد الكوري مثال على ذلك.
وقبل أحمد ولد الكوري دخل اخيارهم بن المختار بن سيدي بن عبد الوهاب السباعي المولود في حدود سنة 1832 مدرسة أبناء الشيوخ.
أخيارهم بن المختار بن سيدي من أوائل طلاب مدرسة أبناء الشيوخ.
كان اخيارهم، الذي عاش أزيد من سبعين سنة حيث توفي سنة 1907، أول موريتاني انتسب لهذه المدرسة السينلوية.
واخيارهم رجل ربعة قوي البنية آدم اللون أقنى الأنف ذو عيون سود توحي نظراته بذكاء حاد وفطنة متوقدة كما تصفه التقارير الفرنسية.
كما كان اخيارهم نابها سريع التحصيل وخصوصا لدروس اللغة الفرنسية وهو ما شجع الوالي الفرنسي باندر على إعطائه منحة لتعلم اللغة الفرنسية بفرنسا. زار باريس في حدود سنة 1853 وهو ابن عشرين سنة وقضى بها سنة وكان بذلك أول طالب موريتاني يذهب إلى أوروبا، وذلك في عهد نابوليون الثالث. حضر اخيارهم دخول نابليون الثالث باريس وهو قادم من حرب القرم بشرق أوروبا وظل يتذكر تلك الاستعراضات العسكرية الضاربة في الفخامة كما ذكر ذلك فريرجان في كتابه عن موريتانيا.
وكما كان اخيارهم يتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة فقد مر بعد إقامته بباريس بمدينة ليفربول ببريطانيا وأقام بها برهة حيث أخذ بعض مبادئ اللغة الإنجليزية.
وتصف إحدى الوثائق الفرنسية كيفية ابتعاث اخيارهم لباريس واللباس الذي زودته به الإدارة الفرنسية باندر والتوصيات التي بعث بها الوالي إلى الحكومة الفرنسية وخصوصا ضرورة معاملة هذا الطالب المسلم الذي لا يأكل لحم الخنزير ولا يشرب الكحول، والذي ينبغي معاملته تماما كما يعامل الطلاب المشارقة القادمين من مصر وغيرها من دول العالم الإسلامي.
يطلق الفرنسيون في كتاباتهم الكثيرة على اخيارهم "ذو اللحية الزرقاء" (Barbe bleue) والسبب في ذلك أن لون النيلة كان دائما يصبغ لحية اخيارهم الكثة بعدما كبر واشتعلت لحيته شيبا.
ولعل سناد بن محمد بن محمذن ابن عبد الله جنگ اليدالي كان من بين المنتسبين الأوائل لمدرسة أبناء الشيوخ. فقد نشر له بول مارتي صورة نادرة في كتابه عن إمارة الترارزة.
وكان سناد عبقريا تعلم الفرنسية وصار يتقنها كتابة وحديثا وعين كاتبا للجنة الاستشارية لشؤون المسلمين في سينلوي. وقد ذكرت السناد هذا في مقالة لي سابقة كما أوردت في تلك المقالة تعريف الفقيه المؤرخ أحمدو بن اتاه بن حمينا في نظمه التاريخي عن قبيلة إدوداي للسناد هذا.
تقرير خاص بدفعة من طلاب مدرسة أبناء الشيوخ
صورة من تقرير خاص بالطلاب الموريتانيين بمدرسة أبناء الشيوخ يعود لثلاثينيات القرن الماضي
بين يدي تقرير غير مؤرخ وغالب الظن أنه يعود لثلاثينيات القرن الماضي وهو يتحدث عن وضعية سبعة طلاب موريتانيين بعد تخرجهم من مدرسة أبناء الشيوخ وهم:
1 - محمد بونا ولد المختار ولد امحمد ولد سيدي أحمد رحمه الله أو "بونا مختار" كما في أغلب التقارير الفرنسية.
(أولاد دمان)
2 – أبو مدين بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ أحمدو بن سليمان. (أولاد ديمان)
3 – محمد يحظيه بن زين العابدين (إدوداي)
4 – سيدي أحمد ولد حوم الله (المدلش)
5 – محمد فال ولد سيدي (أولاد أحمد بن دمان)
6 – محمد ولد الشيخ الحسن (إدابلحسن)
7 – محمد فال ولد عمير (أولاد أحمد بن دمان)
ودون الدخول في كثير من التفاصيل سأكتفي بما كتب عن الأمير محمد فال ولد عمير للعدوة فيما بعد للحديث عما كتب عن غيره من هؤلاء الأعيان.
الأمير محمد فال ولد عمير (من طلاب مدرسة أبناء الشيوخ) صورة أخذت سنة 1935.
فولد عمير –حسب التقرير- ابن الأمير أحمد ولد الديد وقد نال بجدارة شهادة الدروس من مدرسة أبناء الشيوخ، وهو في غاية الذكاء وما زال شابا يافعا بحيث لم تتحدد بعد ملامح شخصيته لكن ذكاءه يسمح له بمواصلة تعليمه في مستويات أعلى.
غير ان حالته الصحية الحرجة جعلت والده لا يرغب في متابعته للدروس في مدرسة أبناء الشيوخ.
ويقترح التقرير جعل ولد عمير موظفا في دائرة الترارزة حتى يتعرف أكثر على الوسائل والإجراءات الإدارية وحتى لا ينسى ما تعلمه من اللغة الفرنسية.
ذلك أنه جرت العادة أن أي تلميذ عاد إلى وسطه الاجتماعي دون أن يتابع دراسته سينسى كلما تعلم من اللغة الفرنسية. وتقترح التقرير في الختام وجوب إلحاق اي طفل يحتمل أن يكون فيما بعد زعيما في وسطه الاجتماعي بمدرسة سينلوي.
مدرسة بلانشو.. طلاب سيصبحون نواة الدولة الوطنية
الرئيس السابق المختار ولد داداه وأحمد بزيد وأحمد بابا ابنا أحمد مسكة وهم طلاب في اندر أربعينيات القرن الماضي.
ما لبثت مدرسة أبناء الشيوخ أن أخذت اسما شهيرا سنة 1916 فأصبحت تسمى مدرسة ابلانشو الابتدائية والعليا (L’École primaire supérieure Blanchot) أو "مدرسة بلانشو" اختصارا؛ وبلانشو ضابط فرنسي قديم كان قد حكم في السنغال قبل فيدريب بزمن طويل. أو على الأصح أصبحت مدرسة أبناء الشيوخ جزءا من مدرسة أشمل وأوسع هي مدرسة بلانشو، وتعرف اليوم مدرسة بلانشو باسم ثانوية أحمد فال كما رأينا آنفا.
كان التعليم متشابها في جميع فروع وأقسام مدرسة بلانشو غير أن قسم أبناء الشيوخ يدرس مبادئ اللغة العربية ويتم التركيز في هذا القسم الذي تستمر الدراسة فيه أربع سنوات (بدل ثلاث للأقسام الأخرى) على المعلومات التطبيقية لأن المطلوب بالنسبة لأبناء الشيوخ بشكل خاص أن يكونوا موظفين في الإدارة الاستعمارية.
كان سيدي محمد جاكانا رحمه الله تعالى المتوفى بداية سنة 2008 والذي كان وزيرا للدفاع الوطني بداية سبعينيات القرن الماضي من أبرز الموريتانيين الذيم درسوا في مدرسة بلانشو بسينلوي بعدما حصل على شهادة الدروس الابتدائية بكيهيدي.
كما انتسب لهذه المدرسة الدبلوماسي الموريتاني ممادو توري رحمه الله تعالى وهو أول سفير لموريتانيا في باريس سنة 1961.
وقد مر بها كذلك الوزير السابق والإداري المتمرس ممادو صمبا بولي با رحمه الله قبل أن ينتسب لمدرسة سبيخوتان لتكوين المعلمين بدكار، ليصبح بعد ذلك أحد أبرز السياسيين والإداريين الموريتانيين خلال فترة الاستقلال.
ومن أبرز من تابع دراسته في مدرسة بلانشو الرئيس الموريتاني الأسبق المختار ولد داداه رحمه الله الذي تحدث في مذكراته عن دخوله هذه المدرسة وكيف كان طلب منه والده محمدن ولد داداه رحمه الله أن يختار هذه المدرسة لا سواها لأن بها تعليما باللغة العربية.
وقد التحق العديد من إطارات موريتانيا الأوائل بهذه المدرسة ومن بينهم الوزير السابق والسياسي المتميز بحام ولد محمد الأغظف وغيره من أعيان البلد وأعلامه.
وتستحق هذه المؤسسة دراسة خاصة وتعرفا على الدفعات الموريتانية التي تخرجت منها.
المدارس النظامية الموريتانية في عهد الاستعمار الفرنسي
كانت المدراس الفرنسية ممقوتة عند الموريتانيين وكان أغلبهم يتحاشى إدخال أولاده فيها ويرى في ذلك مدخلا لفساد الدين والأخلاق.
وقد أفتى علماء عديدون بوجوب مقاطعة مدارس الفرنسيين واتقاء الاختلاط بهم وتعلم ثقافتهم. وقد اعتبر بعض المؤرخين أن تلك المقاطعة لمدارس المستعمر يدخل في مقاومة ثقافية مارسها الموريتانيون وهي تكمل المقاومة المسلحة التي كان الموريتانيون يشعلونها نارا لا تخمد وحريقا لا يخبو.
كانت أولى المدراس النظامية الموريتانية مدرسة كيهيدي المتأسسة سنة 1905 وتلتها مدرسة بوغي في حدود 1912.
كانت مدرسة بوتلميت سنة 1913 فالمذرذرة في نفس السنة لتتالى المدارس بعد ذلك وتتوسع وتشمل تنبدقة سنة 1933 فأطار 1936 فكيفه 1939 إلى آخره. ولن نصل إلى سنة 1940 حتى يكون عدد المدارس على المستوى الوطني أربع عشرة مدرسة تضم 780 تلميذا. وبعد هذه الفترة توسع التعليم النظامي في موريتانيا وأصبحت الحاجة ماسة لكادر معرب فتم اختيار المفتش عكاري الذي أشرف مرة وهو بمدينة روصو على مسابقة لاكتتاب المعلمين العقدويين وشاركت فيها كوكبة من أبناء الوطن ممن لهم قدم راسخة في المعارف العربية الأصيلة لكن المواد الحديثة التي كانت موضوع المسابقة والمنهجيات المعاصرة التي يحتاجها الامتحان حالت دون فوز العديد منهم في تلك المسابقة.
ومن أطوار عكاري المزاجية أن فازت سيدة في تلك المسابقة واحتلت صدارة الناجحين ولم يكن ذلك متوقعا.
فحسب الناس –كما يقول أحمدو ولد بزيد في صفحته على الفيس بوك- أن ذلك لحاجة في نفس عكاري.
سناد بن محمدن اليدالي أحد منتسبي مدرسة أبناء الشيوخ في القرن التاسع عشر.
وكان من بين مصححي تلك المسابقة والمشرفين عليها العلامة الشهير الشفيع ولد المحبوبِي وقد استوصاه بعض المترشحين ممن لم يكتب له النجاح في حين نجح المحسوبون والمحسوبات على عكاري.
وقد خلد المختار بن حامدن ظروف ذلك الامتحان ونتائجه في بيتين جميلين:
أهلُ القواربِ قد جاؤوا بـ"مُزْيَانِ" ۞ فتاتُهم وفتاهمْ فيه سيانِ
لم أدر هل شفعوا الشيخ الشفيع لهم ۞ أم شفعت بنت منظور بن زبان
وفي هذا إشارة إلى ما جرى للفرزدق مع ابنة عمه النوار عندما ترافعت معه أمام عبد الله ابن الزبير وهو يومها أمير المؤمنين في مكة، فنزلت على زوجته بنت منظور بن زبان، ونزل الفرزدق على ابنه حمزة، وقال يمدحه:
يا حمز هل لك في ذي حاجة غرضت ۞ أَنضاؤه بمكان غير ممطور
فأنت أولى قريش أَن تكون لها ۞ وأنت بيـن أبي بكر ومنظور
فقعدا للمرافعة فصار أمر النوار يقوى وشأن الفرزدق يضعف فقال الفرزدق:
أما البنون فلم تقبل شافعتهم ۞ وشفعت بنت بن منظور بن زبانا
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا ۞ مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
بقلم الباحث الموريتاني المقيم بقطر سيدي أحمد ولد الأمير