موريتاتيا ومالي :علاقات تاريخية ينبغي ان تبقى كذلك

اثنين, 04/08/2024 - 17:25

نحن ومالي.. الخلافات الحدودية وإرادة التعاون

----------------------------------------------------

خلال سنوات قليلة بعد استقلالنا وقبول عضويتنا في الأمم المتحدة، توصلنا مع كافة جيراننا في الجنوب وفي الشرق والشمال، باستثناء المغرب، إلى تكوين علاقات جيدة على نحو ما كنا نأمل، وهو ما يصب في صالح الوحدة الإفريقية التي ظللنا منذ بدء الاستقلال مناضلين أوفياء لها. وقد بقينا كذلك نعمل بلا كلل في سبيل تحقيق هذا الهدف، وقد ساعدتنا على ذلك جملة من الظروف.

 (..)

وتخلت مالي عن موقفها المعادي لنا، بعد أن قمنا باحتجاجات كثيرة وقوية لدى حكومتها من أجل أن توقف السماح للمغرب باستخدام أراضيها كقاعدة للاعتداء على الأراضي الموريتانية. وبدأت فترة علاقات طبيعية بيننا، كان أولها المؤتمر الوزاري بين البلدين الذي انعقد في كيفه مع بداية شهر أغسطس 1962. وفي الشهر الموالي وجَّه حزب الاتحاد الاشتراكي دعوة إلى حزب الشعب الموريتاني، فبعث الأخير وفداً إلى بماكو مكوناً من عضوين من مكتبه التنفيذي هما يوسف كويتا وأحمد بابا بن أحمد مسكه لتمثيله في مؤتمر الحزب المالي. وقد رسَّخت هذه المشاركة جهودَ التصالح بيننا. وفي نهاية هذا الشهر قام وزير التخطيط الموريتاني محمد المختار معروف بزيارة حسن جوار لبماكو، فاستقبله الرئيس موديبو كيتا وسلَّمه دعوةً موجهةً إليّ للقيام بزيارة رسمية لمالي.

وقامت مالي بإجراء آخر يوضح التطور الإيجابي للعلاقات بيننا. ففي 17 أكتوبر دعت الحكومة المالية حرمة ولد بابانا إلى إخلاء قواعد التدريب والهجوم في مالي ابتداءً من 26 من الشهر نفسه. وأبلغني الرئيس موديبو كيتا بهذا الإجراء فور اتخاذه إياه، وكان هذا نصراً ديبلوماسياً جديداً ضد المغرب حيث تخلّى عنه بلد ثان من «مجموعة الدار البيضاء». والحقيقة أن الأوضاع الداخلية في مالي استدعت من الرئيس موديبو كيتا تغيير سياسته، فقد كان عليه أن يعود إلى صف فرنسا، ولكن عليه قبل ذلك أن يصلح علاقاته مع جيرانه.

وبناءً على طلب مني انعقد في باماكو اجتماع وزاري يومي 23 و24 نوفمبر 1962 ضم وزير داخلية موريتانيا ونظيره المالي. وقد أكدا «تطابق وجهتي نظرهما حول القضايا التي تطرّق إليها البحث، وخصوصاً حول قضايا الحدود والأمن والنواحي الاقتصادية، وقررا إحياءَ لجنة الحدود، وعدم اختراق قوات الأمن في أحد البلدين لحدود البلد الآخر، والتعاون على البحث عن العناصر المتمردة، وأخيراً تطبيق اتفاقات نواكشوط في 15 يناير 1960 وعيون العتروس في 13 يونيو 1960 المتعلقة بالانتجاع عبر الحدود والإحصاءات الضريبية». ومنذ ذلك الوقت بدأ جو العلاقات الموريتانية المالية يصفو وأصبح الطريق ممهداً أمام مؤتمر قمة خاي.

لقد انعقدت هذه القمة في مدينة خاي بمالي، كما تشير إليه تسميتها من 15 إلى 17 فبراير 1963. وكان هذا المؤتمر قد سبقته اجتماعات مهدت له، أشرنا إليها أعلاه، وضم وفدين من بلدينا أحدهما برئاسة الرئيس موديبو كيتا والثاني بقيادتي.

وقبل الحديث عن الاتفاق الذي توصلنا إليه، أود أن أذكِّر، مع الإيجاز، بمنشإ الخلافات على الحدود بيننا. لقد ظلت منطقة الحوض حتى سنة 1944 تابعة إداريا للسودان الفرنسي، وهو ما يمثل واحدا من الأخطاء الكثيرة في مجال التقسيم الإقليمي التي ارتكبها المستعمر الفرنسي، والتي لم يراع فيها غير مصالحه الآنية الاستراتيجية والاقتصادية.

وفي أعقاب اقتتال بين زاويتين صوفيتين تقتسمان ولاء القبائل الأساس في المنطقة راح ضحيته كثير من القتلى، فكّر وزير المستعمرات والوالي العام لغرب إفريقيا الفرنسية سنة 1944 في إصلاح الخطإ الذي ارتكبه سلفهم وإعادة منطقة الحوض إلى وطنها الأم موريتانيا، فاستوجب ذلك إعادة رسم الحدود بين المستعمرتين إذ ذاك. وحاولت الإدارة الفرنسية في السودان رفض هذه الحدود الجديدة بشكل غير مباشر. ومع حصول السودان الفرنسي على الاستقلال الذاتي ثم الاستقلال، أعرب مسؤولوه الوطنيون عن اعتراضهم التام على خط الحدود هذا.

والحقيقة أنهم من الناحية القانونية كانوا محقين؛ فالمرسوم الذي أصدرته باريس بضم الحوض إلى موريتانيا حدد خط الحدود الجديدة بين المستعمرتين اعتماداً على معلومات طبوغرافية ومساحية (جيوديزية) لا داعي هنا للخوض في تفاصيلها الفنية، ولكن كان ينبغي أن يشفع إصدار هذا المرسوم بمقرر مطبِّق له يصدره الوالي العام لغرب إفريقيا الفرنسية لتحديد محتوى المرسوم لا لتغييره، إذ لا يمكن قانونياً تغيير مرسوم بمقرر مثل هذا. لكن ما حصل هو أن المقرر المرسِّم للحدود (gubernatorial) غيَّرها لصالح موريتانيا، فغدت بموجب هذا القرار تدير مناطق يطالب بها السودان الفرنسي ثم مالي من بعد. هكذا إذا كان القانون إلى جانب مالي ولكن الواقع الفعلي يعطي الحق لموريتانيا.

كانت هذه إذا هي المشكلة التي علينا أن نجد لها حلا في خاي. وبعد نقاشات ساخنة في هذا اللقاء حصل بيننا اتفاق على أن مؤتمرنا ليس هيئة قانونية يمكنها البت في هذه القضية، ولكنه اجتماع سياسي عليه أن يبحث عن حل سياسي لمشكلة سياسية أيضا. واستمرت المفاوضات ولكن بصعوبة بالغة. فقد وصلنا عدة مرات إلى نقطة القطيعة، لكن الإرادة الطيبة التي تحلى بها الطرفان، والرغبة الصادقة في إيجاد حل لمصدر الشقاق بيننا جعلانا نتجاوز خلافاتنا، ونكبح جماح حميتنا القومية لنتوصل إلى حل يرضى كلا الطرفين. واقتضى هذا الحل تقسيم المناطق المتنازع عليها تقسيماً عادلا، وخاصة المنطقة المهمة منها وهي منطقة تلمسي. ومنطقة تلمسي هذه منطقة رعي بالغة الأهمية، وتوجد بها مجموعة آبار مهمة بعضها ملح محبب عند رعاة الإبل الذين يرتادون المنطقةَ بكثرة وخاصة في الفترة التي تحتاج فيها إبلهم إلى تناول كميات من الماء الملح.

وبعد مضي ثلاثة أشهر على لقائنا في خاي، كنت وموديبو كيتا سعيدين وفخورين أن نضرب مثلا باتفاقنا أمام الملأ من إفريقيا المستقلة المجتمِع في آديس آبابا لإنشاء منظمة الوحدة الإفريقية. ويبدو مع الأسف أن هذا المثال في حل النزاعات الحدودية لم يحتذَ في قارتنا التي ما يزال هذا النوع من النزاعات وغيره من المعوقات يُعرقِل جهود وحدتها القارية.

المختار ولد داداه / «موريتانيا على درب التحديات»