ذكريات محظرة بالغربان الحلقة: 2

يهيجني للوصل أيامنا الألى

     مررن علينا والزمان وريق

....

لا شك أن ذكريات المحظرة وأيامها و ما اشتملت عليه من قصص وأفراح وأتراح وكد ورخاء يظل بعضه محفوظا في ذاكرة التلميذ يود لو تعود به الأيام إلى ذلك الزمن الجميل! لكن هيهات.. سقى الله أيام الصبى ما يسرها... ويفعل فعل البابلي المعتق

وفي هذه الحلقة سأستعيد بعض ما حفظته الذاكرة من ذلك الزمن الجميل:

كيف كان نظامنا السكني والمعيشي، وكيف كنا ندرس ونراجع و ما نمضي من وقت في الملاغزات والإعراب وفي الندوة الشعرية...

في بداية التسعينات كانت بيوت محظرة بالغربان:   

(الدار لكبيرة) تتالف من ست غرف

دار ول ابرد الليل: غرفتان.

(الدار الكداميه) غرفتان

هذا بالإضافة إلى بعض المنازل التي تمنح للطلاب يسكنون فيها، مثل: (دار اهل ابيد) غرفتان..

دار أهل الخلف: غرفتان

.....

تنتظم كل مجموعة في غرفة ويطلق عليها اسم (الرحله) يتولى كلَّ يوم أحدُ أفرادها مسؤولية المعيشة، تسمى هذه المهمة (الوظيفه) تبدأ بالشاي صباحا مع ما تيسر من خبز و فستق (كرت وانبسكيت)

ثم يتولى طبخ الغداء، (الارز مع ما تيسر من لحم وخضار أو الوجبة التي ليست محببة عند البعض (مار وآدلكان) وتنتهي الوظيفة بالشاي المسائي..

أما العشاء فيتبع للفرد، كل حسب ما يحب وأكثرهم من أهل العيش مع الحليب أو كولوريا..

وفي بعض الأيام تكون لدى المحظرة ذبيحة، شاة عقيقة أو عادة.. إذ من عادة المجتمع أن يقدم العقيقة هدية للمحظرة، وكذلك من عادتهم إهداء شاة عند الوليمة..ومن المعروف أن نصيب الشيخ منها هو (الظهر والشاكله) أما البقية فتقسم على الطلاب.. وقد أشار يحي ابن بلا رحمه الله إلى هذا في أسلوبه الفكاهي ضمن مشاعرته مع التلاميذ، قال:

لكم عادة شاة بكل وليمة

     وشاة متى يولد لدى الناس نكرش

وعندكم انبسكيت وانبور فاقنعوا

     وكرت وعيش إن يعيش معيش

وكنا عهدناكم تلاميذ ركبة

      يخط لكم خط كبير وينقش

إذا بكم والحمد لله صرتم

     تقولون شعرا كي تشبع أكرش

فإن كان طول الدهر بالأكل شغلكم

    فكيف يعي التلميذ كيف يكنش

فلا تكثروا التوراش يوما فتطعزو

      فقد جربوا أن يطعز المتورش

....

نظام الدراسة:

كان التلاميذ ينظمون أوقات الدراسة على الشيخ حيث لكل أهل فن وقت معين، مثلا: أهل النحو والصرف واللغة ومشتقاتها يبدأ وقتهم من قبل صلاة الصبح أو بعدها وينتهي  ضحى عند العاشرة أو الحادية عشر، ثم يبدأ الوقت لصالح أهل الفقه ومشتقاته بقية الوقت أي حتى حدود الواحدة أو الثانية زوالا..

أما بقية اليوم فهو مشترك غالبا، يدرس فيه من كانت عليهم الوظيفة أو من فاتهم الوقت المخصص لهم..

الطالب يكتب درسه اليومي في وقت مبكر، ثم يصححه على أحد الطلاب ممن سبق أن درس ذلك النص، ثم يراجعه حتى يتمكن من حفظه أو يقرب من ذلك، ثم يعمد إلى الشيخ فيشرح له الدرس، ثم يذهب إلى أحد كبار أهل فنه يستظهر عليه ما استشكل من معنى ويصحح عليه بعض الشواهد والطرر حتى يستوعب درسه، ثم يذهب إلى موقع خال لا صخب فيه ولا تشويش غرفة مغلقة أو ظل شجرة في الخلاء.. ثم يبدأ يرجع درسه وكأنه يخاطب شخصا غيره، يعيد عليه معاني الدرس واحتمالته وأقوال العلماء فيه وتفصيل الصور المحتملة في كل مسألة، حتى إن من لا يعرف ذلك يظن به جنونا... ثم يخرج من هذه المراجعة وقد حفظ واستوعب.. فإن كان هناك إشكال فالشيخ وكبار التلاميذ كفيلون بحله.

حلاقات الإعراب والندوة الشعرية:

حلقات الإعراب تنعقد غالبا بين العشائين  حيث يجتمع صغار الطلاب من محبي الإعراب ومتذوقيه وربما يكون من ضمنهم متطفلون لا يعرفون شيئا عن الإعراب، ولكنهم يخبطون فيه خبط عشواء، وقد يصيب أحدهم بالصدفة، و قد يكون سبق وأن عرف إعراب بعض الكلمات في حلقات أخرى فيجيب بما سبق وأن علم، ويسمى ذلك الإعراب (أم ادفينه) ولا أعرف اشتقاق هذه التسمية..  تتحلق الجماعة حول أحد الشيوخ أو كبار التلاميذ فيمتحنهم بالبيت والبيتين وربما تطول الحلقة إذا لم يخفقوا وغالبا يركزون على الكلمات الصعبة متجاوزين الكلمات التي يسهل إعرابها أو إنما يعربها المبتدؤون فقط، أما أهل التخصص فيعمدون إلى الكلمة الصعبة كل يقول فيها ما يبدو له معللا ذلك بما علم من قواعد، ومن المعروف أن محاولات الإعراب ثلاثة فقط، فإذا لم يصب فقد أخفق (طاح) في كل فترة يظهر في المحظرة عرابون يعترف لهم بالسبق في الإعراب، ثم يتجاوزون مرحلة المشاركة في الحلقات تاركين الفرصة لغيرهم من الطلبة.

الندوة الشعريه، أو المصارعة:

هي حلقة أدبية وهي مائدة السمر في المحظرة تكون بعد العشاء وغالبا ما تكون صاخبة، يجتمع لها شطار التلاميذ يبدأ أحدهم ببيت شاءه ثم يبدأ من يليه ببيت يبدأ بالحرف الأخير من البيت السابق وهكذا يأتي دور كل واحد منهم، قد يكونون عشرة أو أقل، ويعمد المهرة منهم إلى إسقاط من يليهم بالتركيز على حرف واحد أو حرفين حتى يسقطه ثم يسقط من يليه إلى أن تنتهي الحلقة او تبقى محصورة  بين فارسين يصمم كل منهما على ان لا يرفع الراية البيضاء ، وفي هذه الحالة يرفع سقف التحدي حيث يلتزمان بحرا واحدا أو رويا واحدا و قد يصلان إلى الاتزام بحركة الحرف الأخير.. ثم لا محالة يسقط أحدهما في هذه الحالة..

هناك حروف معروفة تنفد في بداية الحلقة وهي السبب في إسقاط الكثيرين وهي: الضاد والثاء والذال والزاي... غالبا ما تفضي هذه الحلقة إلى أمور أخرى فتتحول من حلقة أدبية إلى حلقة لكمات على الرؤوس شديدة الوقع، تسمى (زيك زيك) حيث يعمد إلى أحدهم فيبرك كالساجد وقد غطى عينيه فيضربه أحدهم على الرأس، فيسأل من بك؟ فإن أصاب برك الذي ضربه، وإن أخطأ أعاد بروكه.

وإلى هنا نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الحلقة.

محمدن التال